(1) الخلل في العلاقة بين الأجر ومتطلبات المعيشة قديم, والمطالبة بتعديل هذا الخلل قديمة أيضا, والأصل في هذا الوضع يرجع إلي علاقة غير صحيحة بين الطرفين يترتب عليها ألا يحصل العامل, أو كاسب الأجر, علي عائد عمله الحقيقي الذي يلزمه حتي يعيش حياة لائقة.
وقد احتاج هذا الأمر في أوروبا وأمريكا إلي تاريخ طويل من النضالات النقابية حتي يتم تعديل التعامل بين الطرفين لمصلحة العاملين.
أما في بلادنا, فالمسألة لها وجه مختلف, فحتي الستينيات من القرن الـ20 كان العامل الزراعي يتقاضي يومية لا تزيد علي25 قرشا مقابل العمل منذ شروق الشمس وحتي غروبها. وفي الصناعة لم يكن الأجر يزيد علي75 قرشا في اليوم, في حين أن خريج الجامعة كان مرتبه لا يتجاوز20 جنيها أبدا كل شهر, بينما لم يكن مرتب وكيل الوزارة يتخطي100 جنيه بحال من الأحوال.
وخلال تلك المرحلة لجأت الدولة إلي سياسة التوسع في توظيف الناس, بصرف النظر عن مدي الحاجة لهم, علي أساس الزعم بأن ذلك يحقق مفهوم العمالة الكاملة, بينما كان يضمن في الواقع تبعية الجميع للدولة فلا يستطيع أحد أن يتجرأ ويتظاهر ضدها, فهي تمنح وتمنع, وأصدرت تشريعات تمنع إقالة أو فصل العمال ولو كانوا زائدين علي الحاجة. وبعد حرب1973, وما صاحبها من زيادات كبيرة في الأسعار نتيجة عبء الإنفاق العسكري منذ نكسة يونيو1967 وحتي ما بعد الحرب, زاد الخلل بين المرتبات والأجور من ناحية وبين الأسعار من ناحية أخري, خاصة في بند السكن.
(2) توافق مع هذا التطور, حدوث طفرة في أسعار البترول وبدء دول الخليج تباعا تأسيا بالسعودية مشروعات وبرامج للنهضة الشاملة في مختلف المجالات.. وهكذا انفتحت سوق للعمالة المصرية لم تكن متوافرة أمامها من قبل, وصارت أعداد متزايدة من المصريين تسعي للعمل في الخليج.
المهم في هذا, أن المقارنة بين عائد العمل في مصر والعمل في الخليج لذات الشخص لم تكن في مصلحة مصر. وهكذا, تحول العمل في البلاد إلي نوع من التأمين ضد البطالة أو نوع من ضمان معاش الحد الأدني, أما العمل الحقيقي فهو العمل في الخارج, وبالتبعية أصبح المصريون أقل اهتماما بأوضاع وظروف العمل في الداخل, وصاروا يقبلون العمل في الخارج بالرغم من عدم وجود أي نقابات تدافع عن حقوق العمال أو حتي المهنيين. فقد تأكد لدي الجميع بالتجربة أنه يستطيع خلال4 سنوات أن يدخر أموالا من العمل في الخليج لن يمكنه أبدا من أن يتحصل عليها في مصر ولا حتي في الأحلام. وهكذا انهارت الجدوي من قيمة العمل في مصر, وللأسف فإن المرتبات الهزيلة للعاملين في الدولة هي مثال ساطع علي هذا. وزاد من الأسف, ذيوع وانتشار أسلوب الإكراميات والرشاوي والبقشيش كوسيلة يحقق بها الكثير من العاملين درجة من التوازن بين الدخل والمنصرف حتي يمكنهم أن ينفقوا علي أسرهم.
وتحت هذا البند يمكن وضع الدروس الخصوصية, وأجور الأطباء, والمحامين, والمحاسبين.. إلخ. وحتي الميكانيكي والحلاق, فقد أصبح كل منا عندما يقدم خدمة أو عملا يضاعف أجرها مرات.
(3) إذا كان هذا هو الوضع, فالمنطقي أن تصبح ثقافة العمل عندنا سيئة جدا ومنحطة, فما هي قيمة عمل, لا يكفي عائده لأن يحقق لك دخلا يكفي للإنفاق علي أسرتك؟.. في التعليم, الصحة, والكساء, والتنقل, فضلا عن السكن والحق في الاصطياف أو.. إلخ.
وفي الواقع, فإن إعلانات التليفزيون والصحف والراديو والسينما ترسم بالنيابة عن الإنسان معني أو صورة الحياة اللائقة التي يتمناها كل منا.
وللحقيقة, فإن هيئات كثيرة صارت تكتظ بعمالة تفوق احتياجاتها, والأدهي من كل هذا, أن أغلب هؤلاء لا يذهبون لأعمالهم, وإذا حضروا فإنهم لا يعملون, وعلي الرغم من هذا, فهم يشاركون زملاءهم الذين يعملون في الحصول علي المرتبات دون أن يقوموا بأي عمل مقابل ذلك, فضلا عن الحصول علي كل المزايا الأخري, من مكافآت وحوافز وخلافه.. وهذا ما يزيد الإحساس بفساد ثقافة العمل.. فنسبة كبيرة من هؤلاء الذين لا يعملون, ولا يتوقفون عن الحصول علي حقوقهم لمجرد أن أسماءهم مدونة في السجلات يعملون في أماكن أخري يحصلون منها علي أجور أعلي بكثير من تلك التي يتقاضونها في أماكنهم الأصلية.
إذن.. فإن العدل يقضي بتعديل القوانين, بحيث يمكن التخلص من كل العمالة الزائدة, وبالتالي تحصل العمالة الفعلية علي مرتين أو3 مرات الأجر الذي تحصل عليه, ساعتها يمكن لثقافة العمل أن تنصلح.. وساعتها يمكن الحساب بحق عن الكفاءة والدقة والانضباط في العمل